Ahmad Moualla
Painting| Workshop| Graphic| Photograph| | | Contact info | What's new?
 


ويؤكد الفنان في حديثه أنه ليس هناك ثمة دروب صحيحة في عملية الإبداع.. "إنها السير بين أشجار الأخطاء ودروب الأفخاخ.. إنها السباحة في المياه العميقة حيث تتحول الأفكار إلى أسماك ضارية.. علاقتي مع اللوحة قائمة على الحرية، والحرية تكتنز الخوف من أراضيها: الخوف من المجهول، وما يصنع متعة العمل الفني هو اقتحام هذه المجاهيل. ما لاأريد الوصول إليه هو الاستسلام إلى نموذج أركن إليه وأسكن فيه. إن ما يمنح التشكيل هذه السطوة في روحي هو أنه لا يتهمني بالجريمة إن ذبحت الشكل".

ما بين اكتمال العمل في نظر مشاهده وعدم اكتماله في نظر مبدعه تجاذب يقوم على النفاذ إلى تصور كل منهما، فالمخطط البصري في ذهن الفنان وروحه مرتبط بشبكته الخاصة، فيما تتكرس رؤية المشاهد على المنجز المتحقق بمعانيه الإشارية والتحريضية التي تستثير معارفه التراكمية عن التصوير أمام منجز حقيقي على المستويين المادي والمجازي، فما يمتلكه الفنان من حرية في إنشاء شبكته قد لا يوازي الحرية التي سيتعامل من خلالها المتلقي لهذا العمل أو ذاك، رغم قوة الاستثارة المتولدة عن التفاعل مع المنجز. إلا أن المؤكد هو العلاقة القائمة في الموقف بين كليهما، وهو ما يثبت قوة الاستجابة للمتخيل الذي يمتلك تقنيات وصوله وحيوية التصادم في الفرضيات التي يصفها كل منهما.
الركن الأول في شبكة الفنان هو: فهمه للمكان الذي يحتضنه، والذي ترك بصمة واضحة على سيرته "للأمكنة التي احتضنتني أو تناولتها خصوصيات انتمائي، فهي على محور واحد، إذا ما تعمدت فصلها عن الزمن، أو عن عالم الأحلام الخاص بي، أو عن عالم منقول من تجارب الآخرين.
ولدت على البحر، ترعرعت على شاطئ الفرات في الرقة، سافرت بين المكانين، تهجأت جغرافية سورية في فصول متنوعة، احتضنتني بيوت من تراب وخشب، وأخرى من إسمنت وحديد، بيوت أرمنية وكردية وشركسية وآشورية. وتواجدت في قرية ذات أشجار مختلفة عما نراه عادة في غاباتنا، وتذوقت طعاماً ذا نكهة مختلفة، ولعبت وأنا أحلم مع ضفادع تنفصل أجزاؤها كلما أرادت، وحدثني أصدقاء عن السجن...الخ.
الرواية والسينما والتاريخ والشعر قادتني جميعها إلى أمكنة كثيرة أثرت مخيلتي، وكذا حواسي مجتمعة، لا سيما حين كنت أتعامى لأفترض وجوداً مختلفاً.
المكان الأول: ربما هو فراغ في بادية الشام، يشكل مركزاً لدوران الغيوم التي انتهت للتو من الأمطار، معلنة نهاية غبار ليل المكان لعدة أيام.. عماء ثم انكشاف..
المكان الأول: هو أبيض اللوحة قبل أن أضع أي إشارة، أو لمسة. قلق يتشهى الرؤى، أو تكون اللمسة الأولى مكاناً أول، أو يسرق الدافع شرف الابتداء. ربما للرحم صفة المكان الأول، ولكنني أذكر أكثر من هذا: ملامسة يدي والدتي لجسدي.
ربما بقي للميتافيزيق المصنوع من الحكايات الأولى – والدينية منها بامتياز – الأثر الأكثر قدسية، حيث نسعى لإلصاق حجر بجدار من أجل التمكن من التمني الذي سيتحقق.
المكان الأول يتحرك في كرة وليس من مركز ثابت، إلا بالمعنى الرسمي، كمكان الولادة بالنسبة لسجلات القيد المدني، الظن بالأمام والوراء، والأعلى والأسفل.. الخ.. يشكل دعوة إلى مكان أول لا أجده، كأنما هو الصفر بالنسبة إلى بقية الأرقام.. ابتكاره".
هذا الفهم للمكان الأول الذي يحدده أحمد معلا في لقاء له مع أكرم قطريب يبرز المعنى المفاهيمي للمكان كما يراه، أو كما يتجلى في عمله الفني، الذي يعتبره أكثر من سيرة ذاتية، إلى حدود يتحول عبرها باطنه إلى عمل فني بشكل كلي.. إنه مكان رمزي، يحمل ملامح الواقع ولا يتطابق معها. مكان دينوي، وآخروي بآن. وكأن الفنان قد نشأ دفعة واحدة – كما يرى كونستانتين بروت – مع باقي الفنانين بغض النظر عن زمن أو مكان أو تاريخ. "لقد نشأوا دفعة واحدة لأن كل واحد من حملة المشعل، الذين اندلعت شعلاتهم من اضطراب الفكر والشعور، لم يكن سوى مظهر آخر لرغبة الإنسان الفريدة المتعذرة على الاختزال، والدائمة للتعبير عن نفسه بطريقة تغني جماله وتوضح حقيقته"(1)
إذا كان ما قاله أحمد عن المكان يضيء جانباً مهماً من الإطلالة الشاملة على عمله، فماذا يقول عن الزمن؟.. ففي حين يغدو المكان رمزاً، يكون الزمان مجازياً: "أعتقد أن الزمان هو السيد، أما المكان فعبد، وهذا ما يمنح تجربتي حيويتها (أي معرض من معارضه يتحرك في زمان محدد مما يسمح له بالانتقال إلى سواه). وكذا التجريب، أو الإنجاز الذي أصوغه فتنفتح لي أبواب متنوعة، تدفعني إلى الالتقاء بذاتي باستمرار في هيئات مختلفة.
أراني متبدلاً طوال الوقت، ولشخصيتي التشكيلية هذا الخلاص من اليقين بحثاً عن أحمد آخر، يتقارب مرة ويتباعد مرات عن العناصر المكونة لسلفه.
هناك أزمان متعددة، زمان شخصي، زمان افتراضي، زمان تاريخي، زمان مستقبلي، زمان مطلق.. الخ. أستحضرها جميعاً لإغناء فعالية عملي التشكيلي، وأثراء لوحتي. أما طغيان الزمان، فهو مرتبط بالتحولات والتبدلات والانزلاقات التي تشكل انعكاسات تشكيلية، تغرق اللوحة بعناصرها المختلفة بالترددات الناتجة عنها. وكأنني أرسم رسالة تضج بدعوة المشاهد إلى فهم الزمن ودوره، وبالتالي إلى بناء الذاكرة باستمرار وإعادة ترتيبها. وعلى الأقل إثارة السؤال حول الزمن نفسه... وكأن اللوحة تستعيد الحياة منذ بدئها حتى الآن في كل مرة، وربما في أكثر من لوحة.. الفن استعادة للحياة، ولشريط الحياة، ولهذا يبدو للبعض أن الكثير من الفنانين هم أطفال أو مجانين يلعبون.
»       «