Ahmad Moualla
Painting| Workshop| Graphic| Photograph| | | Contact info | What's new?
 


أناس وكلمات  

  

كان الطريق معتما ومتعرجا، في ليلة من ليالي شباط الدمشقية الباردة. ولم يبد لي أن مرشدي إلى منزل أحمد معلا الجديد، صديقنا المشترك نبيل أسود، أكثر دراية مني بمجاهل هذا الطريق في تلك المنطقة الجديدة من ضواحي دمشق.
غير أننا وصلنا في نهاية المطاف، وما أن أطل علينا منزله الجديد حتى شعرت أني مقبل على تجربة جديدة ومختلفة، فهذا المنزل الذي يبدو كبيرا من الخارج قد يتيح لي ما لم أتمكن منه من قبل، أي أن أحظى أخيرا بفرصة لمعاينة لوحات أحمد الكبيرة الحجم من مسافة وزاوية ملائمتين.
كنت قد تعرفت على أحمد للمرة الأولى في شهر آذار من عام 1986 عندما أوفدت في مهمة تدريبية إلى باريس وكان نبيل صديقنا المشترك يحضر في ذلك الوقت الدكتوراه في المسرح، في حين كان أحمد يواصل دراساته الفنية هناك. وشاءت ظروف حياتنا أن نبتعد ثم نعود فنلتقي مرارا وتكرارا، حتى اكتسبت صداقتنا تلك الطبيعة التي تسم الصداقات التي لا يفصم عراها الزمن: تمر سنوات دون أن نلتق، ثم نعود لنلتقي من جديد فكأن الشقة لم تطل بيننا لأكثر من أيام.
 كان أحمد لا يزال يقطن في منزله السابق الذي كان أيضا مرسمه في قدسيا عندما زرته منذ سنتين حين ذهبت لأحدثه عن افتتان الناس في واشنطن بلوحته "الحمراء"  المذهلة والتي تمثل بصورة ضبابية جموعا ضخمة، لعلها جيشا – لست أجزم، وهي تندفع بسرعة كبيرة باتجاه حافة ثم تتوقف في اللحظة الأخيرة وقد أدركت بغتة أن تلك قد تكون حافة هاوية تجلب لهم الهلاك. صورة درامية تذخر بحركية مثيرة التقطتها عدسة المصور في لحظة حاسمة، ودونتها في ذاكرة الفنان اللاواعية، فأعاد إخراجها عملا أثار الدهشة والإعجاب عندما عرض ضمن معرض للفن التشكيلي السوري تم تنظيمه في أهم قاعة للفن التشكيلي في العاصمة الأميركية.
في الحقيقة، لم أذهب فقط لأهنئ أحمد على النجاح الذي لقيته لوحته تلك وإنما لأشاهد أيضا إنتاجه الفني الجديد. وفعلا لم يخب ظني، فهو لا يمكث أبدا في سكون بل يظل يجول في عوالمه الفنية الرحبة، فيخوض غماراً لم يجربها من قبل ولم نألفها منه أو نعرفها عنه، فتمتزج لدينا مشاعر خيبة الأمل، لأننا لم نعد نتلمس "أسلوبه" بله توقيعه الفني الذي بتنا قادرين على تمييزه به، بمشاعر الإعجاب بعوالمه الفنية الجديدة التي هو في طور استكناه خباياها آنذاك وفي تلك اللحظة عينها.
 
مازلت أذكر أنه في تلك الزيارة نزلت وأحمد إلى مرسمه في قبو المنزل حيث أراني مجموعة من اللوحات الكبيرة  الحجم والأبعاد بشكل استثنائي، يغلب عليها عالم لوني ثنائي أو ثلاثي، عالم الأبيض والأسود وتدرجاتهما، لوحات هي بمثابة مسرحيات درامية كبيرة تحتشد فيها جموع الممثلين الأبطال والثانويين والكومبارس سوية في مسرح يضج بالحيوية والحياة  حيث تجري أحداث كبرى، لا كما يحدث على خشبة المسرح الحقيقي إذ أن لا وحدة للزمان هنا، بل للمكان فقط. وبدل أن تتسلسل الحوادث متعاقبة زمنياـ تتراكب حوادث لوحات أحمد معلا طبقة فوق أخرى، فكأننا نرى جميع تلك الطبقات معا مدركين أنها لا تحدث متزامنة غير أننا لا نعرف بالضرورة أي منها يسبق الآخر أو يليه.
إلا أن ما حرمني القدرة على الوقوف أمام كل لوحة من هذه اللوحات كبيرة الحجم على حدة ودراستها دراسة متأنية من مسافة تسمح بالإلمام بمجملها كان ضيق مساحة المرسم. إذ أن مشاهدة كل لوحة عن قرب تسمح بتمحيص تفاصيلها ولكنها لا تتيح خلق الانطباع الإجمالي العام الذي يعطي المشاهد شعورا بأن العمل الذي يراه أكبر بكثير من مجموع جزئياته، فالأثر الكلي الذي تحدثه "دراميات" أحمد المصورة أقوى وقعا في النفس من مجموع التأثيرات التي تخلقها كل جزئية من جزئيات عمله الفني.
مرت كل هذه الخواطر في ذهني بسرعة خاطفة وأنا أدخل منزل أحمد الرحب الجديد. حيث قادنا مباشرة إلى مرسمه الذي يشغل الطابق الأرضي بأكمله. مرسم واسع الأرجاء، عالي الجدران، حسن الإنارة إلا أنه  قارص البرودة.
في ذلك المرسم، جلسنا نحن الثلاثة، أحمد ونبيل وأنا، في حين بدأ مساعدو أحمد يجلبون اللوحات واحدة واحدة، أو اثنتين اثنتين، حسب حجم اللوحة أو موضوعها فيقومون بتعليقها على جدار عار كبير، لنبدأ نحن بتأملها والتمعن بها قبل أن يرفعونها عن الجدار ويأتون من جديد بلوحة أخرى .
ولا أستطيع أن أخفي كم كان ذهولي كبيرا، إذ لست أدري أي جنية ملهمة سكنته مؤخرا فأثمر ذلك عن خصوبة وغزارة انتاج لم أعدهما فيه من قبل، وهو المعروف بكثرة أعماله. سلسلة متصلة من اللوحات الجديدة التي لم أشاهدها من قبل تأتي وتذهب. ولكن الأمر لا يقف هنا. فأعماله الجديدة تختلف اختلافا جذريا أسلوبا وموضوعا عن عوالمه التي عهدناها وأسلوبه الذي تميز به خلال عقود.
وبينما كانت اللوحات تعرض أمامنا، اختلست النظر إلى وجه أحمد الذي بدا أنه لا يقل عنا افتتانا بما يشاهد أمامه، وهذا برأيي إنما يدل على أن فن أحمد معلا ينبع أصلا من وجدانه اللاواعي.  كما لاحظت أيضا  أن سرورا صبيانيا طافحا  كان مرتسما على وجهه، أتراه كان مستمتعا بمراقبة التأثير القوي لأعماله على وجوهنا! أم أنه انعكاس لشيء آخر.  وفي تلك اللحظة، عرف أحمد أني أنظر إليه، فأجابني دون أن أسأله:هل تعرف إني أسعد كثيرا عندما تعرض لوحاتي على زائري؟ في الحقيقة، هذه هي فرصتي لأشاهد أعمالي التي ترفع عن الحائط ولا أعود أراها  ثانية بعد انتهائي من رسمها.
 
* * *
 إن الآنية والتلقائية تتكاملان تكاملا تاما مع رؤية أحمد معلا الفنية في واقع الحال. فعندما نشاهد لوحاته يتملكنا شعور بالوهلية وبأن عمله إنما ينبثق من تلك اللحظة التي نعيشها الآن.  فمثلا عندما نقف أمام إحدى تلك اللوحات، نشعر وكأن مغلاق عدسة آلة التصوير قد فتح وأغلق بسرعة كبيرة، وكأن معالم وانطباعات متبقية من صورة ما ظهرت ثم تلاشت بغتة  قد تحولت عبر ريشة هذا الفنان إلى  لوحة ننظر إليها. لوحة ليست إلا خيالات منعكسة عن واقع حقيقي يذخر بالحيوية، إلا أن سطح اللوحة لا يسمح لنا إلا بمشاهدة لحظة واحدة ملتقطة منه.
ومع ذلك فإن ذلك الشعور بالآنية الذي تخلقه لدينا أعمال أحمد معلا، ليس إلا حيلة بارعة يستخدمها ذلك الصانع الماهر. فإذا ما أمعنا النظر خلف ما يبدو لنا لحظيا وعابرا نجد وحدة عضوية متماسكة تماسكا قويا لا تربط الأجزاء المتعددة للعمل بعضها ببعض فحسب، وإنما تضع اللوحة بأكملها ضمن سياق متصل لرؤية فنية شاملة تمتد عبر مجمل نتاجه الفني رجوعا إلى الوراء لسنوات عدة، واستشرافا لأعمال لم تر النور بعد. وكأن أعماله إنما تمثل سلسلة من لوحات ترسم مشاهد متتابعة لمسرح كوني وتاريخي ممتد ومتصل، وكل لوحة منها ما هي إلا مشهد من مشاهد فصول ذلك العرض المسرحي الصاخب.
نعم إن فن أحمد معلا هو فن درامي، والدراما في مسرحه البصري دراما صاخبة ومتوثبة.  فمسرح الحياة لدى أحمد معلا هو مسرح تتصارع وتضطرب وتتماوج فيه الأهواء والأفكار والحوادث الجسام. إنها الدراما الناتجة عن جموع غفيرة من الأشخاص تتزاحم وتتدافع من أجل موقع لها على سطح لوحته، وهي مشغولة بحياتها على خشبة مسرحه إذ إنها تفكر، تتجادل، تتشاجر، تصرخ، وفي أحيان كثيرة: تتحدث....  ورغم أن هذه الحشود تتكلم جميعا بأصوات متعددة وفي آن معا، فإن العمل يظل بليغا معبرا. فالضجة المنبعثة من أصواتهم تسيطر علينا وتأسرنا.  ومما لا شك فيه، فإن قوة التعبير وارتفاع الصوت يفرضان علينا تحديا لا نستطيع التصدي له، ويتجاوز ملكة الحكم لدينا فيتركنا عاجزين عن النقد والتحليل وأكثر من ذلك عن الفهم الدقيق لما يصلنا من الرسائل التي يبعث بها شخوص لوحاته أو حتى ما يقولونه فعلا. وكأن أصوات هؤلاء الأشخاص إنما تخاطب وعينا اللاشعوري مباشرة.
 ليس عالم أحمد معلا المسرحي هو ذاك العالم الواقعي الذي نعيشه فعلا، بل هو العالم الذي نتوق أن نعيشه بعد ما شاهدناه على خشبة مسرح أعماله. فمسرحه يأخذنا إلى عالم من الأحلام يذخر بالوقائع والحوادث والشخوص. ومن هنا فإن إغراء أن نكون جزءا من ذلك العالم المتخيل هو إغراء ذو جاذب تستحيل ممانعته.
ولكن أحمد معلا يظل أولا وأخيرا فنانا يتمتع بإدراك عميق واحترام عظيم لفنون صنعته. وتلك السيطرة التقنية المتطورة على أدوات هذه الصنعة لم تأت صدفة، بل هي نتيجة عمل شاق دؤوب ومعاناة طويلة فيها الكثير من الألم والمعاناة.  إن لدى هذا الفنان تقنية معقدة ومتعددة الجوانب، فهو يعمل بحرفية عالية عندما يتعلق الأمر بألوانه الزيتية ومعاجينه وريشه وسكاكينه وأدواته الأخرى. إذ إنه لا يقارب فنه باستهانة، فكل مربع صغير في لوحته إنما هو نتاج تأمل عميق، وعمل كثيف، ومخاض فني فيه ما في الولادة من ألم وحب.
 
* * *
كما هو الحال مع معظم الفنانين، فإن أحمد معلا يمر بمراحل وأطوار. ويتبع مساره الفني في أحيان خطا متصلا متدرجا في تقدمه، ثم يدور في مسارات لولبية في أحيان أخرى. وهو إذ يدخل مرحلة جديدة من مراحل تطوره الفني يواصل استكشافه لمدى وآفاق تلك المرحلة، ويظل يحسنها ويغنيها ويضيف عليها حتى يصل بها ذروة النضج التعبيري والاتقان الفني، فيمنح نفسه استراحة المحارب، ويروح عن نفسه بالعودة إلى أساليبه السابقة مطعمة بما أنجزه في مراحله اللاحقة، فيصل قديمه بجديده. وقد يكون هذا إنما نتيجة لفصام أساسي يعاني منه كل الفنانون المبدعون: إنه ذاك التمزق بين التوق العظيم للتجديد والتغيير، والتعلق العاطفي بما أصبح يشكل تراثه الفني ومسار حياته التشكيلية.
 
كان أحمد معلا، في المراحل المبكرة من مراحل تطوره الفنية، يصور الناس كأفراد لا نستطيع تميز جنسهم، بل حتى لا يهمنا معرفة جنسهم. أفراد منخرطون في طقوس مبهمة، قد تكون احتفالية أو دينية أو شعائرية، لسنا ندري. ولكن الأكيد هو أن تلك الطقوس كانت تجري في الأماكن العامة وبمشاركة حشود كبيرة، وبالتالي فقد كانت طقوسا صاخبة نادرا ما تتخللها لحظات صمت.
وشيئا فشيئا بدأ الناس بالتكاثر في لوحاته. وأصبح عالماً مزدحماً غاصاً بالأفراد. ولم يعودوا كلهم منخرطين في نشاط مركزي أو مشتركين في حديث جماعي، بل أصبح من الواضح أن لا روابط تجمع بعضهم بعضا، فكأنها لقطة مأخوذة من واقع الحياة. ومما يبدو واضحاً، فإن العلاقات بينهم لم تعد موضوعا للوحاته، إلا أن منظورا شاملا يتجاوز اللوحة الواحدة ويشمل عالمه الفني بأكمله يجعل منهم  جميعا وحدة عضوية واحدة، تماما كما هي وحدة الوجود رغم تعدد مظاهره.
ثم بدأت بعض الكلمات تظهر في لوحات أحمد معلا. وفي البدء كانت مجرد كلمات تسربت عن غير قصد من لوحاته. ألفاظ وكلمات هاربة من عديد الأحاديث التي تنخرط بها جموعه.
ومع مرور الوقت، تزايدت أهمية هذه الكلمات. وشيئا فشيئا احتلت موقع الصدارة على خشبة مسرحه. وكشف أحمد لمجمهوره عن موهبة جديدة لم نعرفها عنه من قبل ألا وهي موهبة الخطاط المجيد لحرفته.
والحقيقة أن أحمد معلا لا يسيطر فحسب على القواعد الدقيقة والصارمة للخط العربي التقليدي ويتقن توظيفه لخدمة أغراضه التشكيلية والجمالية، بل هو باحث مجرب في عالم الخط العربي، حتى أنه صمم خطا مبتكرا خاصا به.
ومع التزايد المضطرد لأهمية الكلمات في لوحاته انتقل بنا أحمد معلا إلى طور جديد من أطوار عالمه الفني المتجدد باستمرار. فبدأت الكلمات الهاربة المنفلتة من شخوص لوحاته تسيطر تماما على العمل الفني بحيث أصبحت تمثل حجر الرحى الذي يقوم العمل بأكلمه عليه. وبدأت تظهر في أرجاء مسرحه البصري مقاطع من صدر بيت شعر هنا، وقول مأثور هناك، وحكمة متواترة في مكان ثالث دون الحاجة إلى أي انتظام أو قابلية للفهم. فهي ليست حواش تضاف إلى اللوحة لشرحها أو التعليق عليها. ومهما بذلنا من جهد فإننا نفشل في وضع النقاط على الحروف أوحل الأحجية. فإذا ما نجحنا في التقاط كلمة في موضع ما، وقفلة في موضع آخر، فإن ذلك لا يعني اقترابنا من فهم أفضل لتلك اللوحة.  وبالتأكيد  فإن التقاطنا لكلمة هنا وأخرى هناك لا "يفسر" لنا اللوحة بل يضفي عليها سحرا من الغموض والإبهام. و في النهاية فإننا سرعان ما ندرك أن هذه الكلمات مهمة وأساسية لهم "هم" الموجودون في داخل اللوحة وليست لنا "نحن" الذين ننظر إلى اللوحة من خارجها، فهي جزء لا يتجزأ من العالم الداخلي للوحة وليست مجرد حواش مكتوبة عليها.
ولكن أحمد معلا لا يقف أبدا حيث يصل. فقد بدأت الكلمات والحروف تحل محل جموعه وأشخاصه، وبدا وكأنه أكثر اهتماما اليوم بالمقولة من اهتمامه بقائلها، ولكنها تظل بحد ذاتها رسالة تذخر بعوامل الدراما المسرحية التي كانت شخوصه تنضح بها. إنها حروف وكلمات تتداخل وتتراكب وتتلون، ومن ثم تلقى عليها الظلال والأضواء فتخلق عالما شعوريا متعدد الأوجه لدى ناظر اللوحة. إنه عالم يتغير بتغير مزاجه النفسي وذائقته البصرية بل وحتى اختلاف النقطة التي يقف عندها وينظر منها إلى اللوحة مسافة وزاوية عن نقطة أخرى.
 
* * *
 
عندما وقفت أتأمل مبهورا إحدى لوحاته الجديدة، خيل لي أن خداعا بصريا يمارس على عيني من قبل تقنيته البارعة. فعلى بعد بدت لي اللوحة امتدادا لعالم غاستون بولوك اللوني العشوائي. ومع تمعني باللوحة اكتشفت أن ما بدا لي ظاهريا لأول وهلة بأنه لطخات لونية صدفية لم تكن إلا بعثرة عشوائية مبهرة للحروف والكلمات المتراكبة والمتلاصقة. ثم وبمزيد من التمحيص والمعاينة أدركت أن ما خلته اعتباطيا وعشوائيا إنما هو موضوع وفق مخطط دقيق محكم ومنفذ بدقة عالية. وهنا كانت دهشتي كبيرة، فخلف العبث المرح لروحه الحرة وما يبدو سهلا متحررا من القيود، يكمن أحمد معلا الحقيقي: فنان ذو رؤية تصميمية معقدة ومتعددة الأبعاد، وإتقان تقني رفيع المستوى. لقد نجحت تلك اللوحة في تكثيف وتركيز كل العناصر الفنية لديه، فتجلى أسلوبه بأنقى صوره: جميلا، وجموح الخيال، ودراميا، وعالي التعقيد.