Ahmad Moualla
Painting| Workshop| Graphic| Photograph| | | Contact info | What's new?
 


جدلية البحث التجريبي واكتشاف الذات المبدعة  

 

دمشق "القدس العربي"
عبد الله أبو راشد:
الفنان التشكيلي السوري" أحمد معلا" ظاهرة فنية تشكيلية مثيرة للدهشة، ومبعثاً للانبهار الآني والدخول في متاهات الحلم الفردي والنتاج الذاتي لفنان مميز أمتلك ناصية الإبداع وأدواته فرادة تعبيرية متبصرة، مفكرة، متمكنة، بأساليب تقنية متنوعة. تجعلك تعيش اللحظات الآنية كمتلقي في قصدية المشاركة التفاعلية مع الطقوس الدرامية والانغماس في تفاصيلها الجزئية متأملاً ومتمماً للحالة التصويرية التي أدار لعبتها بذكاء ملحوظ الفنان" معلا" وبالتالي هي عملية دفع واع لإعادة تنشيط الذاكرة وأعمال العقل والتماس مجموعة من الأسئلة العاصفة فوق الشفاه ومفردات الكلام. ماذا يريد الفنان "أحمد معلا" أن يقول؟ وأي منهجية تصويرية يؤسس ويحتكم بها لمعاييره الصياغية؟
وأية تداعيات تجعلنا ندور في فلكها؟ ترى هي موتنا ودفننا الجماعي أم استلاب الإرادة الحكومة بآلية القمع والاضطهاد؟ أسئلة كثيرة تتوارد في ساحة الذهن وأحلام اليقظة واسترخاء الذات والغوص في طقوس الحالة التوصيفية في مواقف جادة معمقة ومتأملة.
        الفنان "أحمد معلا" على ما يبدو يعشق الأضواء ولا يغامر في بحثه التجريبي فيما "دون النجوم". يحاول التحليق المستمر في سرق الاهتمام ولفت أنظار الآخرين بتقنية مفعمة بالخصوصية السلوكية، وهي بلا شك موهبة إضافية تضاف لسجله الذاتي المليء بالإبداعات مستنداً في ذلك على إرث ذاتي ثقافي وتمكن تقني في حرفية الرسم والتصميم وروحية البحث العقلاني التأملي للأشياء والأفراد من خلال تنوع مصادره البحثية سواء من التراث الغربي وطقوس أبي الطيب المتنبي خصوصاً، أو مكان الدراسة الأكاديمية العليا (يوزار فرنسا) أو من مطالعاته الذاتية في أمهات الكتب الفلسفية من أفلاطون إلى عصر التنوير إلى سارتر والحداثة الفقهية، أو من خلال كينونته كمواطن عربي جشع في حب بلاده العربية. أو نتاج كل هذه الثقافات التي استوطنت تلافيف دماغه وأخذت منه كل مآخذ ليعيد صياغتها في لحظة انفعالية حدسية توليدية قد تكون نزقة، مقززة، تشاؤمية في كثير من الأحيان، ولكنها في نهاية المطاف تصب في مناهل الحلم المرغوب في مشروعية الفكرة وحسن التأليف المكاني وعلاقته بالزمان والمحتوى المرصود، والتوصيف الشكلاني للحالة التعبيرية في إيقاعات حركية ماجنة فوق قماش اللوحة لأفكار مختزنة لعشرات الكتب والمفردات، والمشاهد الحياتية اليومية تدخلنا جميعاًَ كفنان وجمهور في حالة الاندماج العقلاني مع مساحات الحلم المقصود ومختبر الذاكرة البصرية، مسرحاً حياً لحياة يومية نعيشها مليئة بالألم والسوداوية والقنوط، وحالات القلق اللامتناهي في هزلية العبث وسخرية الوجود، وحجم المأساة وضيق فسحات الأمل المتلاشي عبر بوابات التدمير الفكرية للروح والعقل والجسد.
وما معرضه الجديد الذي قدمه تحية للكاتب المبدع (سعد الله ونوس) في صالة "أتاسي" لفنون بالعاصمة السورية دمشق، إلا دلالة إضافية لجهوده الفكرية الجادة في تأسيس رؤية فنية تشكيلية سورية بأبعاد عربية وحضارية بعيداً عن تجارة السوق وتسويق العمل الفني، وهي مزية أولى يلحظها المشاهد منذ الوهلة الأولى التي تطأ قدميه مكان العرض.
        ثلاثية الأبعاد الخلفية المترجمة لمساحات العمل الإبداعي للفنان تتجلى بروح فلسفية – فكرية – تقنية في شكل رسالة حضارية يتقصدها الفنان لإبراز ترجمته الذاتي وما يجول في نفسه وعقله ومحسوساته من توليفات صياغية شكلانية:
الأول: يتجلى بحالة الوفاء الصادق والتفاعل مع الآخر من خلال التحية الموجهة للكاتب "سعد الله ونوس" والتي تشكل في هدفيتها التحية لكل المبدعين العرب بكافة تجاربهم الإبداعية والمكانية، وحالة راقية من تجسيد العلاقة الجدلية والتفاعلية ما بين الأدب - المسرح – الفن التشكيلي بأنماطها التقنية المتعددة، ودعوة مفتوحة لكل المبدعين لتنشيط الذاكرة وإزالة حالات الوهن والتراخي والابتعاد ما أمكن عن الانزلاق في متاهات الفصل ولعبة الاختصاص وفق المنطق النفعي، وإحياء للأيام الخوالي الحافلة بالشواهد أو سواها من الدول العربية.
الثاني: طرح فن جماهيري لأوسع القطاعات بعيداً عن النخبوية وتجار اللوحة في المفهوم التقليدي للاقتناء باعتبارها سلعة بضاعية تلتقطها الأيدي المالية المقتدرة على الشراء.
الثالث: الدخول في أقنية التفاعل الثقافي مع وظيفة الفن ودوره في الحياة باعتباره أرقى وأصعب الفنون التعبيرية وأكثرها تأثيراً في النفس وخلق حالات تواصل بصري وفكري، وتأسيس رؤية فنية محددة السمات متجاوزة اللوحة والمنحوتة التقليدية والخروج عن مألوف العرض النفعي التجاري.
        تقنياً اتبع الفنان النمط المسرحي في صياغة المواقف البصرية المشهدية المعبرة عن ذاته وإمكانياته سواء أكانت من خلال الطقوس الإيحائية في الموسيقى المرافقة للعرض أو توزع بؤر الإضاءة الصنعية, أو توزع أشيائه المبتكرة من رمال ومياه متحركة ونصب وشواهد وأربطة، أو اللوحات البانورامية الموزعة في ثماني "تابلوات" جدارية فوق جدران صالة العرض، أو الحالة الوصفية والإخراجية لآلية العمل الفني التشكيلي كبنية مسرحية شاملة. فقد استطاع من خلالها اختراق المألوف المكاني والتكويني لعوالم اللوحة. فجاءت تكويناته لوحة "بانورامية" مليئة بالقصص والحكايا والمواقف المشهدية عميقة في مؤثراتها وخلفياتها الفلسفية والفكرية وجدت في ملونات الأبيض والأسود المنتاقضين أبداً في سياق متواز أبعاد فلسفية لتناقضات الحياة "الموت - الولادة" أو "الولادة - الموت" وما يعتمرها من خير وشر وتداخل دائم في سيرورة أبدية ما بين التناقضين وكأنه صراع محتدم ومستمر يجمع في طياته فلسفة "وحدة وصراع الأضداد" تلك الصياغة الشكلانية التي أقرب ما تكون إلى الأسلوب الغرافيكي ومعبرة تماماً عن طقوس مشبعة بالخصوصية التعبيرية المرغوبة لدى الفنان في توصيف المصاب.
        وخلجات النفس بنفحات عقلانية ملحمية لكتل بشرية في مجاميع الخطوط والملونات والنسب القياسية المحددة للأجساد، والتي تعكس ذواتنا في لحظات قهر يومي والتوق الدائم لإيجاد بصيص أمل أو بقعة ضوء من حياتنا المظلمة والمليئة بالاستلاب والكآبة في هذا الفضاء الكوني كأفراد وجماعات وشعوب. لأمة لها حضاراتها ذات يوم.
        الوحدة العضوية الشاملة مابين مكونات اللوحات الجدارية والمتممات الداعمة والأساسية من رمل أسود وستائر وأضواء خافتة وموسيقى وأغان وانعكاسات فوق سطوح الماء المتماوج الملحوظة لا تحتاج لتأويل ولا تسويف إلا إبداعية الحلم وعظمة الفكرة التصويرية وتكريس مقولة "أنا أرسم إذن أنا موجود" وهذه الوجودية مرتبطة أساساً بمشروعية المشروع الذي عزف الفنان "أحمد معلا" على أوتاره منذ عدة سنوات والقائم على وظيفية الفن التشكيلي في تربية الأذواق والعقول والنفوس وصقل الممارسات السلوكية الأخلاقية والعقيمية للمجتمع وتكريس حالات التواصل مع الجمال والوطن بأرقى الصور وأنقاها بعيداً عن الذات النفعية والمتاجرة بالفن على حساب القيم ورادة العقل ومناهل الإبداع باعتباره بؤرة إشعاع حضاري ودلالة لانتماء وهوية.
وفي كل الأحوال لا تنتمي طقوس الفنان أحمد معلا التشكيلية إلى نصوص الكاتب المبدع "سعد الله ونوس" لا من قريب أو بعيد، إلا من خلال الحالة الوجدانية والتفاعل الأخلاقي في قوارب جد درامية.