Ahmad Moualla
Painting| Workshop| Graphic| Photograph| | | Contact info | What's new?
 


جداريات استثنائية في التشكيل العربي!  

 

طالب الرفاعي
حين تغشيك رهبة المكان، بعوالمه المأتمية الحزينة، المتشحة بالسواد والعراك والصراخ والهرب، وربما الرقص والمجون وحتى الموت!
حين يتسربك الطقس، ترعش بك اللحظة، وشيئاً فشيئاً تنفجر بك الدهشة، تلجمك، تبلبل أفكارك، تأخذك للصمت، للبحلقة، لفغر فمك، وربما لنسيانك نفسك!
حين تشعر بأنك جزء من جموع بشرية تسير إلى حتفها وإنك انما تسير دربك المرسوم بينها، لحظتها يصعب عليك أن ينتشلك أحد من عزلتك، حتى لو كان همساً ناعماً يعبر بجانبك، وتبلغ حسرتك كمن يتمنى لو استطاع تسور حلماً منعشاً، يصر على أن يتبخر من بين أهدابه ورأسه!
أن تفق أمام أحمد معلا، أو تقف أمام جدارياته الملحمية، أو أمام حشود البشر المتصارعة بحروبها التي تصر على ألا تنتهي، أن تقف أمام الأسود والأبيض بما بينهما من عداء وألفة وصدق، أن تقف أمام حروبك أنت الصغيرة والكبيرة، أن تقف أمام ميلادك وموتك، وأن تشهق بصعق المفاجأة، ذاك وحده ما يحمله معرض أحمد معلا الأخير!! وربما سمحت لنفسي أن أطلق عليه: حوار الأسود والأبيض، حواره في الحياة والموت!
إن المعلومات الأولية التي يستعين بها أحدنا لقراءة لوحة تشكيلية معينة، ربما لا تصلح بالضرورة لقراءة وفهم لوحة أحمد معلا. فحين تقف أمام جدارية تصل أبعادها تقريباً إلى (6×3 أمتار) فإنما تقف بالضرورة أمام لوحة مغايرة، لوحة غير تلك التي درجنا عليها، واستغرقنا في لذتها، وفرشنا لنا موطئاً وثيراً بين جنباتها، ورحنا نتسابق لاقتنائها.
أحمد معلا، وبينما هو مشغول في ترتيب لوحاته بشكلها الأولي، في قاعة الفنون بضاحية عبد الله السالم، ولحظة طفر مني سؤالي عن أدواته بتجربته الجديدة، قال على طريقته في ضرب سكين: "التجربة الجديدة تفرز بالضرورة مناخها وأدواتها...".
أخذ نفساً سريعاً من سيجارته، وأكمل جملته: "ما عدت أعمل بالفرشاة العادية واللون المحايد... أرسم بقطع إسفنج النوافذ الكبيرة، وقطع الخشب والنايلون، والمعدن، والأكليريك وأسيتات الفينيل كتقنيات متنوعة على القماش، وملونات طازجة أستخلصها من الطبيعة!".
وتركني فجأة ركض نحو إحدى لوحاته، لكنه ما لبث أن عاد، وابتسامة وديعة تعلو وجهه بنظرته الطفولية، وصوته: "انتبه! ليس هناك تخطيط مسبق لأي لوحة، ليس هناك رسم بالقلم الرصاص، أو تحديد! هناك لوحة تنبجس من عروقك، ونبض قلبك وحلمك وجنونك... هناك تجربة مغامرة، إما أن تضبط أو تنتهي، فترميها، وتبدأ من جديد، بشجاعة، دون ندم، ودون أن يرف لك جفن، أو تند حسرة عنك!".
وابتعد قليلاً بنظرته، همس يقول: "بعد فترة تبدأ أدواتك في مطاوعتك، تستعين بها فلا تخذلك! اللون يأخذ درجته التي تريد له، ويسيل بالقدر الذي يعرف أين يقف، ووحدها يدك تمهد الطريق لنبض قلبك، وأبداً هناك وحدة هارمونية تجمع كل هذا القدر من الوجع والفرح والحلم والجنون والأمل!".
معرض أحمد معلا، يجيء بعد معرضه الأخير والذي كان بعنوان (تحية إلى سعد الله ونوس) في العام (1997)، والذي كان تظاهرة فنية قلما شهدت مثلها صالة (أتاسي) في دمشق! أربعة أعوام مرت، انقطع فيها أحمد لبحث وقراءات وتفكير ورؤى وحلم، أربع سنوات عد فيها أحمد أصابع يده أكثر من مرة ليتأكد وجودها كما يريد لها أن تكون. أربعة أعوام شغل وانشغل بها أحمد بمشاريع وأعمال تلفزيونية ومسرحية، وحتى تشكيلية صغيرة. لكن، يبدو أن أحمد وفي كل ما عمل واستغرق كان يحضر ويقلب ويرسم في رأسه ما سوف نراه في معرضه الأخير.
الحضور الأكثر صراخاً في لوحات المعرض هما اللونين الأسود والأبيض، والحضور الأهم هو للوحة شاسعة عوالمها ومقاسها، قلما يتسع ركن أو زاوية لاحتوائها. تجربة أحمد معلا الجديدة قائمة حشود بشرية دونما ملامح واضحة، حشود بشرية ملتاعة، في تجمعات بشرية تروي قصة حياتها وربما طريقها إلى الفناء. لوحات معلا الشاسعة الواسعة، تنبئ عن قدرة فائقة على التعامل مع اللوحة الجدارية، قدرة غير عادية على استحضار عوالم مصطخبة، ودون أي تلكؤ أو نفور لوني... جداريات استثنائية، تشعر بأنها جاءت بضربة ريشة أو سكين واحدة! جداريات يحويها عالم واحد، وكأنها ثمرات ناضجة لشجرة أم!
أحمد معلا، بحضور أبيضه الطاغي بلمعانه، وسطوة أسوده القاسية بحزنه، وحتى في ألوانه الأخرى، يخوض بشجاعة قل مثيلها غمار تجربة جديدة عليه، وجديدة علينا نحن، جمهوره الملتقي. تجربة في استنطاق الدهشة بدرجات لونين فقط، تجربة في تحريك مشاعرنا بطريقة مختلفة، تجربة في تحدي مقاس اللوحة العادي، تجربة في رواية حكاية تشكيلية، تذكرك بأقدم لوحات الكنائس في سقوف الفاتيكان، تجربة في أن تبحث عن نفسك بين ثنايا الحشود البشرية المتداحرة، تجربة في أن تكون اللوحة التشكيلية هي المكان بحضورها، وليس بأي شيء آخر.